
عادات رقمية - جانبي فروقة
جانبي فروقة
شهد العالم منذ بداية الألفية الجديدة ثورة رقمية غير مسبوقة أعادت تشكيل أنماط الحياة والسلوك الإنساني. ففي الوقت الذي كانت فيه شبكة الإنترنت في بداية الألفية وسيلة أساسية للبحث وتبادل البريد الإلكتروني، تحوّلت خلال العقدين الماضيين إلى منظومة معقّدة تشمل التواصل الاجتماعي، الترفيه، التعليم، والعمل. هذه النقلة التكنولوجية رغم ما حملته من فرص فقد أفرزت كذلك أنماطًا سلوكية جديدة بعضها مفيد والبعض الآخر مثير للقلق.
ساهم صعود المنصات الرقمية الكبرى مثل فيسبوك (2004)، تويتر (2006)، إنستغرام (2010)، وتيك توك (2016)، في ترسيخ عادات استخدام رقمية ذات طابع إدماني وسريع الاستهلاك، وأصبح المستخدم سلعة رقمية فصعد للسطح مفهوم اقتصاد الانتباه (Attention Economy) حيث يعتمد نموذج الربح لدى معظم المنصات الرقمية على بقاء المستخدم متصلًا لأطول فترة ممكنة فكل ثانية من انتباهك تُترجم إلى عائد إعلاني وشركات مثل متيا Meta وGoogle غوغل تصمم خوارزميات تحفز المستخدم على الاستمرار في التفاعل، مما يُحوّل الانتباه البشري إلى مورد اقتصادي.
وعندما يصبح المستخدم أسير الديجتال تتطور لديه عادات رقمية منها ما هو سيئ ومنها ما هو جيد ومن العادات السيئة التي تم رصدها أولا: التمرير القهري للأخبار السلبية (Doomscrolling) حيث يشير مصطلح Doomscrolling إلى الميل القهري للاستمرار في تصفح الأخبار السلبية رغم معرفة الأثر النفسي الضار لذلك.
ووفقًا لعالمة النفس الرقمي Jean Twenge فإن هذه الظاهرة ترتبط بزيادة معدلات القلق والاكتئاب خصوصًا بين المراهقين الذين يقضون ساعات طويلة في تصفح الأخبار الكارثية، ووفقا لدراسة أجرتها جامعة تكساس عام 2021 فإن 74% من المستخدمين أقروا بأنهم يستمرون في تصفح الأخبار رغم شعورهم بالإجهاد العقلي.
ثانيا: إدمان الإشعارات (Notification Addiction) تخلق التطبيقات الذكية «بيئة محفّزة للسلوك» عبر التنبيهات المستمرة (مثل إشعارات الرسائل، التفاعل على المنشورات أو تنبيهات العروض) والتي تحدث تدفقا متقطعا لمادة الدوبامين في الدماغ مما يعزز الإدمان السلوكي وهذا يساهم في إعادة برمجة الدماغ ليتوقّع المكافآت على فترات متقطعة، وقد وصف تريستان هاريس Tristan Harris (الخبير السابق في شركة غوغل) هذه الإشعارات «كأنها سحب مقبض ماكينة الحظ»، لأنها لا تقدم مكافآت ثابتة، بل عشوائية، مما يجعل التحقق منها عادة لاإرادية ثالثا: نمط الاستهلاك السريع للمحتوى وتشتت الانتباه (Content Skimming / Fragmented Attention) ويشير إلى أن المستخدمين لم يعودو قادرين على التركيز في محتوى طويل بل يستهلكون المعلومات على هيئة جرعات صغيرة جدا (15 - 60 ثانية) وهذا نجده في تطبيقات مثل تيك توك وإنستغرام ريلز التي كرّست نموذج «المحتوى القصير جدًّا»، مما أدى إلى ضعف الانتباه والتركيز، وتراجع الصبر على القراءة أو التعمّق في المحتوى الطويل ويحذر كال نيوبورت Cal Newport، في كتابه «Deep Work» من أن هذا النمط قد يؤثر سلبًا على الأداء المهني والإبداعي ويعزز العقل السطحي ويؤدي إلى تآكل القدرة على التفكير العميق وهو أحد مهارات الاقتصاد المعرفي الحديث. رابعا: تآكل الخصوصية الرقمية (Erosion of Digital Privacy) وتتمثل هذه العادة في القبول اللاواعي بشروط الخصوصية و»تسليم» البيانات الشخصية (مثل الموقع، العادات الشرائية، تفضيلات المحتوى) مقابل خدمات رقمية مجانية. تُستخدم هذه البيانات لبناء بروفايلات دقيقة تُباع للمعلنين. ووفقًا لتقرير صادر عن MIT Technology Review، فإن متوسط ما تجمعه تطبيقات التواصل الاجتماعي من بيانات المستخدم يوميًا يتجاوز 5 ميغابايت من المعلومات الشخصية وقد تحولت الخصوصية إلى سلعة في يد الشركات الرقمية الكبرى. خامسا: المقارنة الاجتماعية المرضية (Toxic Social Comparison) حيث تدفع وسائل التواصل المستخدمين لمقارنة أنفسهم بالآخرين بناءً على «نسخ مثالية» لحياة الآخرين، مما يؤدي إلى انخفاض تقدير الذات، وزيادة مشاعر الفشل أو النقص، خاصة بين فئة الشباب والمراهقين وتشير دراسة أجرتها الدكتورة توينجي Twenge إلى أن استخدام إنستغرام وتيك توك ارتبط بشكل مباشر بارتفاع معدلات الاكتئاب بنسبة 150% بين المراهقات.
وفي المقابل في الفضاء الرقمي هناك عادات حميدة تطورت ومنها: أولا: الوصول المفتوح والسريع للمعرفة (Open Access to Knowledge) حيث يُعد الإنترنت من أعظم أدوات تمكين الأفراد معرفيًا، حيث أتاح ملايين الكتب والمقالات والفيديوهات التعليمية عبر منصات مثل Wikipedia وYouTube وCoursera. هذا التوفر الفوري للمعرفة ألغى حواجز الزمان والمكان، وساهم في تعزيز التعلم الذاتي Lifelong Learning لدى الأفراد من مختلف الخلفيات. تشير دراسات OECD إلى أن مستخدمي الإنترنت الذين يستغلون هذه الموارد بشكل منتظم يحققون نتائج أفضل في التحصيل العلمي والتطوير المهني. ثانيا: المشاركة في الحملات الاجتماعية والإنسانية (Digital Activism / Social Campaigning) فقد أصبح الإنترنت وسيلة قوية لحشد الدعم لقضايا إنسانية واجتماعية، مثل حملات التبرع، التضامن مع الشعوب المتضررة، أو حتى قضايا المناخ وحقوق الإنسان. تشير بيانات من مؤسسة Pew Research إلى أن أكثر من 60% من مستخدمي الإنترنت شاركوا بشكل أو بآخر في حملة اجتماعية عبر الإنترنت.
ثالثا: بناء مجتمعات افتراضية حول الاهتمامات المشتركة (Online Communities الجزيرة Interest-Based Networks) فقد أتاحت منصات مثل Reddit وDiscord وFacebook Groups فضاءات للمستخدمين للالتقاء افتراضيًا حول مواضيع مشتركة مثل القراءة، البرمجة، الزراعة، الصحة النفسية، وغيرها. هذا يعزز الانتماء ويقلل من الشعور بالعزلة خاصة في الفئات المهمشة أو النائية. وقد أظهرت دراسة من جامعة Stanford (2022) أن الأفراد المشاركين في مجتمعات رقمية فعّالة يشعرون بمستوى أعلى من الانتماء ورضا اجتماعي مقارنة بغيرهم. رابعا: فرص التعلم الذاتي والمفتوح (Self-Paced and Open Learning Opportunities) فقد انتشرت المنصات التعليمية المجانية أو منخفضة التكاليف وكما أن ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT ومنصات MOOCs ساعد الملايين على تطوير مهارات جديدة دون الحاجة إلى شهادات جامعية تقليدية. فوفقًا لتقرير صادر عن MIT Tech Review، فإن عدد المستخدمين المسجلين في دورات التعلم الذاتي ازداد بنسبة 250% خلال جائحة كوفيد-19. ووفق تقرير صادر عن Coursera (2023)، سجّل أكثر من 120 مليون شخص في دورات التعلم المفتوح خلال 3 سنوات فقط.
في ظل هذا الواقع المزدوج يبرز السؤال الكبير وهو كيف نستعيد التوازن الرقمي حيث أصبح لزامًا على المستخدمين - أفرادًا ومجتمعات - أن يعيدوا التفكير في علاقتهم بالتكنولوجيا ، علقت الكاتبة شيري Sherry Turkle في كتابها « «Alone Together»: وحيدين معا «لقد أصبحنا متصلين أكثر من أي وقت مضى، لكننا صرنا أكثر وحدة».
من المهم أن نُدرك أن هذه العادات الإيجابية لا تتحقق تلقائيًا، بل تحتاج إلى وعي المستخدم وتوجيه سلوكياته. الفرق الجوهري بين التأثير الإيجابي والسلبي للإنترنت لا يكمن في الأداة، بل في طريقة استخدامها. فالمستخدم النشط الذي يبحث عن المعرفة ويشارك في مجتمعات ذات قيمة، يختلف تمامًا عن المستخدم السلبي الذي يستهلك المحتوى دون وعي.
هل يمكن تصور مستقبل إنترنت متوازن؟ قد يتحقق ذلك إذا اجتمعت جهود صانعي السياسات، والمجتمع المدني، والمستخدمين أنفسهم على إعادة توجيه التكنولوجيا نحو خدمة الإنسان لا استغلاله. وطبعا يمكن تحقيق ذلك عن طريق تفعيل الرقابة الذاتية الرقمية عبر تحديد وقت الشاشة وتصفية التطبيقات وتعزيز التفكير النقدي تجاه المحتوى الرقمي ودعم المبادرات الأخلاقية للتكنولوجيا التي توازن بين الربح ورفاه المستخدم وتوفير شفافية في إدارة البيانات وتحسين ممارسات الخصوصية وحماية البيانات.
** **
- كاتب أمريكي
آراء الكتاب
-
الدول العربية والديمقراطية والفساد - محمد آل الشيخ
- 368
- 2016-02-09 17:29:26
محمد آل الشيخ أصدرت (منظمة الشفافية العالمية) تقريرها عن معدلات الفساد في كل دول العالم للعام الماضي 2015. الأوربيون كانوا في المقدمة، وفي مقدمتهم (النرويج) وليس في ذلك مفاجأة طبعا، بل سيكون مفاجئا لي لوحصل العكس؛ فأنا أرى أمم الغرب، وبالذات الأوربيون أنزه الأمم وأكثرها شفافية وأمانة وعدالة اجتماعية...
-
حراسة الرمز - سعد الدوسري
- 478
- 2016-02-09 17:29:27
سعد الدوسري الحرص على سلامة المسجد، ليست مقتصرةً على النظافة، بل على كل الجوانب التي من شأنها تعكير صفو الرسالة الأساسية لبيت الله. الكثيرون منا لا يسهمون مطلقاً في خدمة المسجد، وفي نفس الوقت، يريدونه مكاناً مثالياً يحقق رغباتهم وتطلعاتهم. بعضنا يستغله لنشر فكره، حتى وإن كان مخالفاً لأمن واستقرار وطنه، دون أن يجد من...
-
الجانب الأرقى في الحضور العام - د.ثريا العريض
- 318
- 2016-02-09 17:29:30
د.ثريا العريض أكتب من دبي حيث أشارك في الملتقى السنوي «قلب شاعري» مع شعراء من العالم شرقا وغربا. وأتابع عن بعد أحداث مهرجان الجنادرية المميز الذي عايشت تأسيسه منذ ثلاثة عقود.. كما أتابع عن قرب جهود الهيئة العليا للسياحة والتراث عندنا في محاولة بناء صناعة سياحية وبيئة جاذبة و ثقافة عامة تستوعب أهمية التاريخ...
-
بطالة حملة ماجستير ودكتوراه! - يوسف المحيميد
- 366
- 2016-02-09 17:29:32
يوسف المحيميد في يونيو من العام الماضي كتبت عن التقرير الرسمي لوزارة الخدمة المدنية، بأن أكثر من سبعمائة ألف مواطن يرغبون في العمل الحكومي، ومن بينهم 149 من حملة الدكتوراه، وأتذكر أنني تلقيت اتصالا من نائب وزير سابق، حاول أن يفند المعلومة وعدم صحتها رغم أنها صادرة في تقرير رسمي، ومن وزارة مختصة بالتوظيف! كم أشعر...
-
دبي.. قمة الحكومات العالمية..! - ناصر الصِرامي
- 345
- 2016-02-09 17:29:35
ناصر الصِرامي غداً تختتم القمة الحكومية في نسختها العالمية بدبي، والتي أصبحت التجمع الأكبر عالمياً والمتخصص في استشراف حكومات المستقبل بمشاركة أكثر من 125 دولة حول العالم و3000 مشارك و125 متحدثاً وأكثر من 70 جلسة، طبقاً لمنظميها. القمة حدث حقيقي ومؤثر، ارتقت بعد 4 سنوات على خريطة المحافل العالمية، بزخم إعلامي وحكومي...
-
التنوير رافد السياسة - أيمـن الـحـمـاد
- 521
- 2016-02-09 17:32:18
لأن دور المفكرين هو التنوير، ولأن العالم العربي اليوم يعيش لحظة تنشط فيها قوى الظلام وأفكار الشر التي اتشحت بالدم، وتوشحت بأداة القتل والتدمير، كان ولا بد من وقفة مع تلك النخب المؤثرة التي يُناط بها إجلاء العتمة والبحث عن بصيص أو قبس من نور يبددها قبل أن ترخي بسوادها على عالمنا الإسلامي الذي يعرف...