
«سيرة دولة وخطابها السياسي والثقافي والدبلوماسي» - د.فوزية أبو خالد
د.فوزية أبو خالد
بعد صحبة ما يقارب شهرين بين عدة مواقع داخل فضاء الوطن وخارجه متأبطة أو بالأحرى محتضنة أينما استظلت من هجير السفر كتاباً فارهاً بجزأيه الشاهقة المشوقة التي اقتربت صفحاته من 1500 عددياً، ونافت ذلك نوعيا، فكأنني أخوض نهراً لا نهاية له ولا قاع، كان لا بد من أنيخ روحي في رحاب الحبر بعد رحلة سبعة عقود من عمر دولة ومجتمع مرت في تلاحق لم يخل عقد منه من جدل التحولات والمواجهات والصراعات والمقارعات حيناً والتناغم حيناً بين مد التغير والاستقرار الذي هو مغزل ومحضن ومصنع تاريخ الدول والمجتمعات بحسب عدد من الطروحات الفكرية من ابن خلدون لماكس فيبر ومن ماركس ورايت ميلز وبوردو وهونيث تاريخياً وعالمياً إلى حليم بركات والشرابي والوردي وخالد الدخيل وثريا التركي وعبدالرحمن الشقري وسلوى الخطيب وعبدالعزيز الخضر عربياً وسعودياً.
لم يكن كتاب مذكرات معالي الشيخ جميل الحجيلان كتاب مذكرات بالمعنى المعتاد المتعارف عليه بل كان فيه الطفل «الحجيلان» والفتى القارئ جميل والشاب والكاتب جميل الحجيلان والموظف ومعالي الوزير وعميد السفراء الشيخ جميل الحجيلان في كل مرحلة من مراحل حياته شاهداً عدلاً بما في وسع البشر على مشهد تكوين الحياة الخاصة والعامة لجيله ولعدة أجيال قبله وبعده عالمياً وعربياً وسعودياً على وجه التحديد بحكم الانتماء والعمل، إلا أنه للمفارقة النوعية أن الرجل لم يكن شاهداً تسجيلياً وحسب، وقد برع في ذلك بأكثر ما في وسع ذاكرة عادية مستعينا بأرشيف توثيقي غاية في الدقة والتنظيم ولكنه أيضاً وبشكل حاذق كان شاهدا بمعنى إضافيٍ للكلمة..
فكان حاضراً ومشتبكاً بتفاصيل مشهد التكوين ببصماته وبقلمه وقلبه وضميره، بحياد حيناً، بتأن حيناً وبانغماس واستغراق روحاً وعملاً معظم الأحيان..
دهشة الطفولة
شهادة أولى من دروس الخروج على هشاشة وصلابة الحياة
ولذلك فنحن حين نقرأ سيرة جميل الحجيلان الذاتية في مرحلة الطفولة لا نجد في ذلك الجزء المفصلي من السيرة وجد الطفولة ولهوها وغموضها وبساطتها وندى الغفلة الذي يغلفها عادة، فيكون الطفل سادراً في حياته اليومية المباشرة يعيش دهشة بيئته الأسرية وأسرها بشكل مغلق، يكاد يكون منفصلاً عن مجريات تفاصيل البيئة الاجتماعية والأحداث الكبرى، بل نجد طفلاً على صغر سنه واعياً بتفاصيل المحيط بدءًا من لحظة البحث عن تاريخ ميلاده الذي لا يجده إلا مرتبطاً بحدث عام يتمثل في سنة «الثلجة الكبيرة» وما صاحب حادثتها من ارتياب وقلق يعكس هشاشة بنية بيته وبيئته في مواجهة عاديات الطبيعة، وليس انتهاء بذهاب الطفل وحيداً مع والدته ليومه الأول بالمدرسة خلافاً لعادة مجتمع ذلك الزمن البعيد الذي كان الآباء هم من يقومون بهذه المهمة، وكذلك مسؤوليته في عمر الطفولة عن تجديد أوراق إقامة أسرته السعودية بسوريا لدى المفوض الفرنسي بما فيها تلك المهمة الكبيرة على ولد صغير من حمولة المواجهة بين طفل وبين ممثلِ للاستعمار. وهذا لا يعني أن الطفل «الحجيلان» لم يعش مباهج مرحلة الطفولة وبراءتها بالمعنى العادي أو أنه عاش طفولة بائسة أقرب لليتم الأبوي ولحياة فيها تحديات الأسرة الأمومية (الجدة والأم) في مجتمع ذكوري وعشائري بامتياز، ولكنه يعني فيما يحمل من معان متعددة أن جميل حجيلان الشاهد والمشتبك مع عصره قد اختار عن وعي متعمد وثقافة واسعة وتجارب مركبة وربما بتعاون مع مكر الذاكرة وعلاماتها الفارقة أن يقدم لنا طفولته التسجيلية متعالقة مع طبيعة المجتمع اثنياً وعرقياً وثقافياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً في تلك المرحلة التاريخية / الثلث الأول من القرن العشرين بمدينة نهرية صغيرة وعريقة اسمها دير الزور بسوريا في موقعها المرفئي لرحلات التجارة القديمة.
وهذا ما يجعل على سبيل المثال عملية استحمام الطفل الأسبوعية مشهداً فسيفسائياً دقيقاً عن إيقاع الحياة اليومي في تلك البيئة من أدوات الاستحمام إلى رمزية الأم/ الجدة والماء في حياة طفل الثامنة، وبما يجعل يوماً مدرسياً عادياً بقسوته ولينه بملله الطويل وإثاراته الصغيرة بمعلميه وطلابه بالمبنى المدرسي وباحة الفسحة ومصروفها الرث و»دغالات» اللعب ومرحه بين التلاميذ وبنوع مقررات التدريس وكيفية التدريس وأناشيد الصف ونشيد الصباح مشهداً متحركاً يشهد بل يكشف عن طبيعة المجتمع ليس في تلك اللحظة التاريخية فقط بل فيما يليها من خلال نوع التربية وطبيعة التعليم الذي تقدمه تلك اللقطات المختارة بوعي من يريد أن يكتب ليس لمحة سريعة من سيرة طفولته وحسب بل حفرية عميقة وإن خاطفة من السيرة الاجتماعية والتعليمية لتلك المرحلة التاريخية الصعبة في الحياة العربية ممثلة بتلك النقطة الجغرافية التي مشى على وهادها ونهادها في عمر غض بأقدام طرية ولكن واثقة وصابرة وإن كانت حيية ومُستكشفة.
بين بلاد العرب أوطاني
وبين وطني الحبيب لا أحب سواه
من رغوة العمر لعمر الرشد والنضج والمشاركة في مسؤوليات تأسيس خطاب سياسي إعلامي ودبلوماسي لدولة موحدة حديثة.
تحديات الفتى الأولى وتصاعدها راشداً ومسؤولاً لا أدري كيف استطاع أن يسير بنا الفتى «العقيلي»، ولم يخط شاربه باللون الأخضر بعد، في أدغال عمر المراهقة وغاباتها وحقول ألغامها المقلقة وإن كانت حميدة، ويمرق بنا مرق السهم من ذلك العنف الجارح وإن بدا صامتا الذي تعرض له وهو في مطلع العمر صبياً يافعاً.. نتيجة ردة فعل الجيرة الأسرية والمدرسية على غياب الوالد وقد طال ونتيجة لذلك الغياب الحارق والغامض نفسه، دون أن يطلعنا إلا إيماء خافتا على التوترات النفسية لتلك المرحلة العمرية ووسواس أسئلتها وفحيح ضجيجها في الجسد وهو يستقبل التباشير الأولى للبلوغ في أول بزوغه، لولا انسكاب تركيز صاحب السيرة على المجرى العام لحياض تجربته في انتقاله من طور الطفولة إلى طور مطلع الصبا، ولولا انكباب الكاتب على الاشتغال بصدق على كتابة تشابك خيوط الخاص بالعام دون محاولة تفكيك تلك الضفيرة المدهشة لصالح الإسراف في التداعي الشخصي..
وقد تمثل تشابك المجرى الخاص والعام لتلك المرحلة المطلعية من حياة الفتى اليافع في عدة محاور.. محورها الأول كما أقرؤه تمثل في تفتح تباشير الصبا داخل إطار أمومي وسط مجتمع أبوي وقد أفرد وأثث الكاتب/ صاحب السيرة للصبي اليافع مساحة «سيسيووجدانية» لتتدفق عليها ذاكرة الطفل والفتى بحنين وشجن طازج لم تجعده يد الوقت ليشف شفافية شغوف ومبصرة معاً في تصوير الأم والجدة كطيفين من ماء وصخر وهما لا تكتفيان بالدور العاطفي النمطي والمعتاد للأمومة بل يخرجان عليه بلعب أدوار ووظائف أخرى قيمية وسلوكية مثل التوجيه والحماية والكد والتسليح لمواجهة المجتمع وهما تقومان وخاصة الجدة بتلك المهام الأبوية/ الأمومية بسلمية وقدرات ناعمة خالية تماما من العنتريات أو المصادمات مع طبيعة المجتمع الأبوي الذكوري بطبيعته ودون التخلي عن موقع الأم الوجداني المعتاد، ودون أن تسمح لا الجدة ولا الأم لأبوية المجتمع ولا لأمومية واقعهم الأسري الخاص مجالاً لترك أي أثر سلبي على اعتداد الطفل بنفسه وبانتمائه، بل لعل الطفل والفتى كانا محظوظين بمعايشة نوع خاص من الأمومة الممازجة بين الحنان وبين الحزم، بما أتاح لهما تجربة فريدة انعكست على الراشد جميل الحجيلان عبر التدرج في مراحل النضج.
ولعلي أستطيع أن أصل إلى تسمية ترمز لطبيعة هذا المحور من خلال قراءتي التحليلية له فيما تقدم فأسميه محور «خميرة الطفولة وروح البقاء» أو «الطفولة بين الصخر والماء»
المحور الثاني وإن كنا سنشهد تبلوره وتطوره عبر كل مرحلة من مراحل حياة معالي الشيخ جميل الحجيلان إلا أن المرحلة الفتية من عمره كما استشفيت من قراءة هذا السيرة السفرية وتجربته الوجدانية والاجتماعية إبانها جعلتها نقطة مركزية في تفتح براعم الوعي لديه على عروبة الانتماء إزاء شرنقة العشائرية لمجتمع مدينة دير الزور وسطوة الاستعمار الفرنسي على سوريا وعموم بلاد الشام بالتحاصص مع الاستعمار البريطاني وتغول الأخير عبر الاستلاب الفادح لأرض فلسطين بإعطاء وعد بلفور كضمانة لتسليم تلك الأرض العربية للصهاينة وتمكينهم من إقامة دولة الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإسرائيلي على حساب وبتشريد الشعب الفلسطيني.
ولمحور تشكل الوعي العروبي المبكر منذ نعومة عود الفتى على عدالة القضايا العربية وحرقتها بجانب حاسة الأنفة التي عانى جرحها على يد مفوض الاستعمار الفرنسي المتعجرف عندما كان عليه طفلاً أن ينجز أوراق أسرته الرسمية، أهمية مفصلية في حياة الصبي الصغير لم تغادره حين غادر مدارج الصبا من العمر ولا حين عاد لأرض وطنه بالمملكة العربية السعودية.
ومن هذا السياق نستطيع تتبع الخط التصاعدي لهذا المحور من خلال ما كتبه معالي الشيخ جميل الحجيلان عن مراحل حياته كراشد ومواطن سعودي وكرجل من رجال الدولة المساهمين في تأسيس الخطاب الإعلامي والدبلوماسي لحكومة بلاده.
فقد كبر ذلك الوعي العروبي معه كما كبرت معه تلك الحاسة الوطنية لتصير مع الاستبصار والثقافة والتجارب الحياتية اللاحقة واحدة من أساسيات منهج جميل الحجيلان الحياتي مواطناً ومسؤولاً كما تكشف المواقف العديدة والعصيبة التي نقف على تفاصيل الكثير منها كلما تقدمنا في قراءة كتاب سيرته بعيد المدى المغري بتعدد القراءات (أنظر ص 418 الجزء الأول من المذكرات) حين عين وزيرا للإعلام 1382هـ، فعلى مسؤوليته السياسية أمام دولته كوزير أول لأول وزارة للإعلام لتأسيس خطاب إعلامي يمثل الطبيعة «المعتدلة والمحافظة» للدولة والمجتمع، فقد أكد في تلك الصفحة من مذكراته على حرصه على ترك مساحة ولو نسبية من الاستقلالية في القرار والعمل (ينظر أيضاً ص36 و56 /الجزء الثاني) وهو يكتب كيف اختط لنفسه نهجا كسفير للرياض في باريس1976م، مشيراً لاستخلاص منهجي لافت بقوله ما معناه، بوعي وحرص وحساب، «الدبلوماسية عمل يصح فيه مزيج من الحكمة والمغامرة وأحياناً المناورة».
يبقى أنه لا بد أن أختم هذا الجزء من المرحلة التأسيسية لهذا المحور وأعنى بها المرحلة الأولى من مطلع العمر يوم كان جميل الحجيلان شاباً صغيراً بتلك النقطة التي لفتتني بقوة وهي قدرة الفتى على صغر سنه ورغم عروبيته على مقاومة الاستقطاب الحزبي السائد في محيطه العام لتلك المرحلة. بما يبدو معه أن عدم الانجذاب الانخراطي أو حتى العاطفي للتحزب بمعناه السياسي المتعارف عليه وقتها / قومية، ناصرية، بعث الخ...، بما يعطينا ضوءًا مبكراً يكشف عن نزعته لتبني نهج مسيري سلمي في حياته مع الميل إلى استقلالية غير صدامية بما نلمس من أنه نهج لازمه حتى في مرحلته الطلابية الجامعية عندما أصبح شاباً يدرس القانون بمصر.
وقد استمر هذا النهج السلمي المتنائي عن الخوض في مخاطرة التوجهات الملتبسة أو الحدية من حينها وإبان مراحل لاحقة من حياته كيوم امتناعه عن النزول إلى الشارع ولو لمشاهدة المظاهرات في «صراع الشاه ومصدق» رغم حصانته الدبلوماسية كموظف في سفارة بلاده بإيران حينها. ولعل ذلك النهج الجانح للسلم المتسلح بحس من الاستقلالية النسبية والمسؤولية العالية على صعوبة ذلك المزيج الذي يبدو أنه شكل بوصلة حدسية أولاً وبوصلة معرفية لاحقاً للكثير من محطات حياة الطفل والمراهق والشاب والسفير والوزير هو أحد مفاتيح شخصية معالي الشيخ جميل الحجيلان.
فهذا الخيط السلمي الجامع المتسم بحاسة تحسبية أو حسابية عالية تجاه المخاطر والمآلات نضع يدنا عليه حتى عندما يعقد مقارناته اللافتة في الجزء الثاني من كتابه بين بعض الثورات الإقليمية وثورات الربيع العربي في قرنين مختلفين. فهو إذا يتحدث عن عنصر المفاجأة المقلق عن أنظمة كانت تبدو مستتبة ثم يحدث خروج جماهيري عليها بمطالب عادلة ومستحقة لم تكن في الحسبان الرسمي من قبل فإنه يرى أن المصائر المتذبذبة إن لم تكن النهايات المنتكسة على غير المشتهى الجماهيري لتلك الثورات قد يكون في الغالب نتيجة طبيعية لاندفاعات رومانسية لا تشفع مشاعرها النبيلة وحدها بالنجاح لها في إيجاد بدائل أفضل مما كان في غياب الحسابات الدقيقة والأهداف والبرامج المدروسة والواضحة كما حدث في إيران في الربع الأخير من القرن الماضي وكما حدث في مصر بداية العقد الثاني من القرن الحالي مع اختلاف المصائر والمآلات شكلاً وموضوعاً وإن وجدت بينها مشتركات في حصاد الكثير من هيبة الخيبات وتوزيعها على الشعوب بدل حلم الحرية والكرامة والخبز الذي اندفع الشعب إلى الشارع طلباً له.
ولعلي أعطي اسماً رمزيا لهذا المحور فأسمي المرحلة الأولى منه «الشباب بين رغوة المغامرة وبين نزعة التحسب» أما المرحلة المتقدمة لهذا المحور في عمر النضج في حياة الشاب جميل الحجيلان فأسميها المسؤولية بين جذوة العروبة وبين الارتباط بالجذور».
وهنا نصل إلى المحور الثالث لترابط مجرى الخاص والعام لحياة صاحب هذه السيرة الفياضة منذ مطلع العمر والذي تفتح وعي الفتى اليافع عليه فقد تمثل في رقية الشعر التي تحولت إلى دواء لمعالجة جراح الصبي الطرية وهو يخطو خطواته الأولى على مدارج البلوغ والرشد.
فهو لم يتداو بالشعر فقط وهو بعد تلميذاً بالمدرسة تجاوباً مع المد العام لتلك المرحلة المحتدمة بمقاومة الاستعمار الفرنسي والبريطاني ومده الصهيوني الذي تمثل في قصيدة خير الله الزركلي وقصائد فخري البارودي بلاد العرب أوطاني وبدوي الجبل وإبراهيم طوقان (موطني الشباب لن يكل همه أن تستقل أو يبيد) و(يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلام) بل إن يده وجدت طريقاً للتصبر والتشافي من داء الأشواق وغياب الأب والخال المضني والطويل في نونية بن زيدون وسواها من قصائد الجوى العذري..
ولعل هذا المحور على أنه عاش حالة مراوحة بين الظل والنور في حياة جميل الحجيلان بين نزعته الأدبية المقموعة أو المؤجلة وبين التزامه الأدبي والميداني تجاه مسؤوليات وظائفه في الدبلوماسية والإعلام معا هو العامل السافر الخفي الذي لعب دوراً صامتاً أو هامساً لإخراج هذه المذكرات من خلال نزعة التعبير عن التجارب بما تمثله من اعتمال للمشاعر والأحاسيس وتموجات المد والجزر بين الخيال وبين الواقع بما يشكل قاسماً مشتركاً بين الشعر وبين عذابات وعذوبة الحياة نفسها.
وأسمح لنفسي أن أسمي هذا المحور بمحور «الشعر والأدب كطوق نجاة وملاذ أول وأخير» أو أسميه «الشعر والأدب كمعادل جمالي للحياة».
بقيت إضافة لابد منها وإن لن توفي هذه النقطة حقها من تأثير هذا التكوين الثقافي والاجتماعي الذاتي المجدول بين عناصر الخاص والعام على تجارب جميل الحجيلان وعلى عمله في التعامل الميداني وفي تمثيل طبيعة الخطاب السعودي السياسي والإداري والدبلوماسي.
ففي ظني أن التربية على الاعتزاز بالهوية في الغربة عبر محاضن الأمومة واستعدادها الفطري للغْزل بظلف الغزالة آمنة ووضحى، ومكابدة التكوين لخروج الفراشة من تشابك خيوط الشرنقة، والمناهل المعرفية الأولى على ضفاف الفرات بثنائية اللغة والحمولة الثقافية لكل منهما والتقلب على ضفاف النيل بين القراءة الحرة للشعر والأدب وبين الدراسة النظامية لتخصص القانون بما خلقاه من جدل المستحيل والممكن في العلاقة بمطلب العدل قد أعدت الطفل الفتى الشاب للعودة إلى وطن ارتبط به وجدانياً ومصيرياً كارتباط الجنين بحبل المشيمة قبل أن يراه. وقد جاءت هذه العودة المفعمة بحنين مستمد من مخيال المكان ومن عمق الهوية والانتماء المستمد من تركة الذاكرة الجمعية لأسرته ولعموم المرتحلين عن أوطانهم من أبناء الجزيرة العربية لظروف معيشية، في لحظة تاريخية تأسيسية بامتياز تجب ما قبلها من قسوة المعاش والترحال وتشكل علامة فارقة في تاريخ وسط الجزيرة العربية في التحول ليس فقط من البداوة للاستقرار ولكن في التحول نحو بناء دولة مركزية موحدة ومستقلة عن قوى الاستعمار المحدقة بجوارها العربي.
وفي ظني أن هذه العودة التي كانت محملة بأشواق بنات وأبناء الصحراء للماء قد جاءت في لحظة تاريخية اجتازت فيها قيادة البلاد الصراعات القبلية والصراعات السياسية والعسكرية مع أي سلطات سابقة وبدأت عهداً جديداً من بناء دولة حديثة بجهاز حكومي عصري. وهذا بحد ذاته ما جعل الشاب جميل الحجيلان بحمولته الوجدانية ومعارفه الثقافية العروبية ومؤهلاته العلمية مرشحا للمشاركة في مواقع قيادية لتأسيس خطاب إعلامي ودبلوماسي قادر حسب متطلبات تلك اللحظة الارسائية وتحدياتها على التعامل مع مخاضات الواقع المحلي ومع جدل الخاص والعام بين الواقع المحلي والعربي والإقليمي والعالمي.. وقد اقتضى ذلك المشاركة والانخراط في تشكيل خطاب سياسي جديد يتكون من مكونين صعبين إن لم يكونا متنافرين بين تخلق دولة ومجتمع حديث بطبيعتهما المركبة وبين واقع مجتمع بسيط تقليدي أبوي رعوي بما يتعين معه على خطابه الإعلامي والدبلوماسي أن يكون شديد المحافظة شديد الحذر من التجديد ومعبرا عن طبيعة نظام الحكم الملكي المطلق ومتطلبات إرساء أركان دولة مستقلة موحدة تملك زمام وعبء إدارة موقعين كبيرين في تأثيرهما الوطني والعالمي، وهما الأراضي المقدسة ومنابع النفط بما لكل منهما من شأن عظيم الأول في المجال الروحي والسياسي والثاني في المجال الاقتصادي والسياسي (أنظر ص 286 /290) الجزء الأول.
«توليت عملاً مكشوفاً للملاحقة والنقد كما هو حال الإعلام في المجتمعات البسيطة»
مذكرات الحجيلان في لغة بلاغية وسرد روائي تصويري سينمائي أخاذ
أما دهشة عمري المعتق في قاع الحبر ونوافيره التي فاجأتني ولازمتني طوال قراءتي لكامل العمل وليس فقط عند قراءتي لدهشة الطفولة التي شف جميل الحجيلان في كتابه عناصر هشاشتها وصلابتها وتسجيل فتنة ضوئها وعتمتها في الحالتين فهي دهشة تلك اللغة الشعرية الباذخة الفارهة المتجلية التي لم يتورع جميل عن بثها في كل صفحة من صفحات الكتاب حتى وهو يكتب مواقف مؤلمة أو فاجعة أو مربكة مثل كتابته عن رحيل الملك عبدالعزيز واغتيال الملك فيصل ورحيل الملك سعود وملابسات كل منها العادية أو المغايرة، ومثل كتابته عن التحولات العميقة أو المواقف الحادة ككتابته عن أزمة رسول السلام وعن نكسة حزيران وعن حرب أكتوبر وعن حادثة الحرم وعن حربي الخليج الأولى والثانية وما إليه من أحداث جسيمة شف الحبر في اندلاعاتها على أرض الواقع وفي الدم. ولا أنسى نفسه السردي الروائي بل السينمائي في كتابة الكثير من مشاهد الكتاب نور الكفاح وبودرة طحين الحنطة على وجه جدته أمام التنور، وصفه التصويري الدقيق والأنيق لقاهرة الأربعينات، ولإيران الخمسينات وخاصة وصفه بالصوت والصورة لبطلة تلك المرحلة في إيران حتى لنكاد نرى ونسمع ترقرق عقد اللؤلؤ على عنق الامبراطورة ثريا اسفندياري ونلمس ملمس اليد جمالها الفتان، كاميرته البصرية الذكية والحكائية عن انقطاع الكهرباء بـ»قصر الحمرا» الواقع قريبا من محيط قصر المربع بالرياض على مائدة العشاء التي كان يستضيف بها ولي العهد آنذاك الأمير سعود بن عبدالعزيز وزير خارجية إسبانيا سنيور خوزيه ارتاخو. أيضاً كان حديثه عن مدينة البندقية حديث الأديب العاشق شيء يشبه أخيلة على محمود طه في قصيدة الجندول.
أما أشد ما راعني في ملكته السردية فهو ذلك التطابق المفجع بين مشاهد الوحشية الإسرائيلية في تنفيذها لإبادة جماعية مخططة ومتعمدة على أرض غزة للعام الثاني على التوالي وبين صور وحشية الخراب الذي حاق بألمانيا في الحرب العالمية الثانية متعمداً ألا يبقي في عمرانها حجراً على حجر وأن يمحو كل جسم متحرك في الحريق وإن كان سرباً من النمل، مدرسة من مدارس الأطفال، دار أوبرا أو مستشفيات... وقد أبدع الحجيلان من خلال تقديمه لسرد سينمائي مريع في سطور قليلة بالغة في تبيان القدرة التهتيكية لحروب العصر الحديث بما استدعى وإن لم يقصد ذلك التطابق والمفارقة بين ما جرى لألمانيا بقصد تحجيم قدرتها على العدوان وبين ما يجري على أرض غزة تعزيزاً لقدرة دولة الاحتلال على المزيد من العدوان والتغول. ولا يجب أن يفوتني التوضيح أن ذلك الجزء من مذكرات الحجيلان لم يكن هدفاً بذاته بل جاء في خضم إخلاصه الشديد المعرفة ولذكر تفاصيل التاريخ والجغرافية وسياسات الحاضر والحالة الاجتماعية والثقافية للبلد الذي عمل فيه سفيراً للمملكة العربية السعودية.. ومثال تقصيه عن تاريخ ألمانيا ما قبل وما بعد العهد النازي والنهوض الألماني الأسطوري بعد ذلك المحو، اقتضاه تعمقه لفهم البلد الذي انتدب لتمثيل المملكة العربية السعودية فيه كسفير لها بمدينة بون. ولم يكن ذلك التقصي إلا مثالاً من أمثلة لا تحصى عن منهجه في العمل وربما في المعيشة أيضاً.
وتميز أيضاً بوصف لا يقل جمالا عن حياته الأسرية كسفير وعن منزل السفير وموقعه وحدائقه الغناء وجواره النهري وما إليه من مظاهر البذخ المفرط إن صح التعبير الذي توفره المملكة لحياة ممثليها الدبلوماسيين من الصف الأول بالخارج الغربي.
ولم ينس معالي الشيخ جميل الحجيلان كأي مخرج سينمائي خارج على الصندوق السردي الرسمي الرتيب أن يشير باعتزاز واضح لدور السيدة نجاح/ أم عماد أو كرم كما تعرف بين صديقاتها حسب مطبوعة ألمانيا / في نجاح الكثير من مهامه الدبلوماسية وتحديداً في وجهها الاجتماعي والتراثي الثقافي.
أضيف لما تقدم عن السرد التصوير للمذكرات روائياً وسينمائياً طريقة الكاتب البديعة في المزج الأسلوبي بين المنفلوطية وبين الواقعية السحرية في كتابة الفصلين الأخيرين من الجزء الأول للمذكرات بعناوين رومانسية مؤثرة لا تخلو من غواية الشعر وشفافية الأدب «معالي الوزير.. أنت مريض» و»اللقاء الأخير.. «يحفظك الله».
وليس أخيراااااا
وإن كنتُ في هذا المقال الطوووووويل مضطرة لاقتصار كتابتي عن سفر هذا السيرة الشاهقة بشموسها المعرفية السافرة وبحر تجاربها العميق على قراءة تأملية وإن كانت خاطفة لقطرات الغيث الأولى من سيرة رجل مفعمة بجدل العلاقة بين الماء والحياة وتلازمهما كما يكشف كل فصول من فصول الكتاب في إشاراتي المقتضبة لبعض ما جاء في تلك الفصول، إلا أنه سيظل في عنقي لعهد الكتابة الغليظ الذي قطعته على نفسي ولم يلزمني به أحد سوى ضمير وحبري وعد بالعودة في مقالات أخرى للكتابة بعين أكثر استبصاراً نقدياً عن كتاب كان يفترض أنه سيرة ذاتية إلا أن حياة صاحبه كانت من التعالق الوطني السياسي والثقافي والدبلوماسي بمكان جعل منها تعبيرا عن مسيرة المملكة العربية السعودية عبر عدة عقود من وجهة نظر ومعايشة ابن من أبناء الدولة والوطن كما شف عن ذلك بأمانة عالية عنوان الكتاب «جميل الحجيلان مسيرة في عهد سبعة ملوك».
آراء الكتاب
-
الدول العربية والديمقراطية والفساد - محمد آل الشيخ
- 368
- 2016-02-09 17:29:26
محمد آل الشيخ أصدرت (منظمة الشفافية العالمية) تقريرها عن معدلات الفساد في كل دول العالم للعام الماضي 2015. الأوربيون كانوا في المقدمة، وفي مقدمتهم (النرويج) وليس في ذلك مفاجأة طبعا، بل سيكون مفاجئا لي لوحصل العكس؛ فأنا أرى أمم الغرب، وبالذات الأوربيون أنزه الأمم وأكثرها شفافية وأمانة وعدالة اجتماعية...
-
حراسة الرمز - سعد الدوسري
- 478
- 2016-02-09 17:29:27
سعد الدوسري الحرص على سلامة المسجد، ليست مقتصرةً على النظافة، بل على كل الجوانب التي من شأنها تعكير صفو الرسالة الأساسية لبيت الله. الكثيرون منا لا يسهمون مطلقاً في خدمة المسجد، وفي نفس الوقت، يريدونه مكاناً مثالياً يحقق رغباتهم وتطلعاتهم. بعضنا يستغله لنشر فكره، حتى وإن كان مخالفاً لأمن واستقرار وطنه، دون أن يجد من...
-
الجانب الأرقى في الحضور العام - د.ثريا العريض
- 318
- 2016-02-09 17:29:30
د.ثريا العريض أكتب من دبي حيث أشارك في الملتقى السنوي «قلب شاعري» مع شعراء من العالم شرقا وغربا. وأتابع عن بعد أحداث مهرجان الجنادرية المميز الذي عايشت تأسيسه منذ ثلاثة عقود.. كما أتابع عن قرب جهود الهيئة العليا للسياحة والتراث عندنا في محاولة بناء صناعة سياحية وبيئة جاذبة و ثقافة عامة تستوعب أهمية التاريخ...
-
بطالة حملة ماجستير ودكتوراه! - يوسف المحيميد
- 366
- 2016-02-09 17:29:32
يوسف المحيميد في يونيو من العام الماضي كتبت عن التقرير الرسمي لوزارة الخدمة المدنية، بأن أكثر من سبعمائة ألف مواطن يرغبون في العمل الحكومي، ومن بينهم 149 من حملة الدكتوراه، وأتذكر أنني تلقيت اتصالا من نائب وزير سابق، حاول أن يفند المعلومة وعدم صحتها رغم أنها صادرة في تقرير رسمي، ومن وزارة مختصة بالتوظيف! كم أشعر...
-
دبي.. قمة الحكومات العالمية..! - ناصر الصِرامي
- 344
- 2016-02-09 17:29:35
ناصر الصِرامي غداً تختتم القمة الحكومية في نسختها العالمية بدبي، والتي أصبحت التجمع الأكبر عالمياً والمتخصص في استشراف حكومات المستقبل بمشاركة أكثر من 125 دولة حول العالم و3000 مشارك و125 متحدثاً وأكثر من 70 جلسة، طبقاً لمنظميها. القمة حدث حقيقي ومؤثر، ارتقت بعد 4 سنوات على خريطة المحافل العالمية، بزخم إعلامي وحكومي...
-
التنوير رافد السياسة - أيمـن الـحـمـاد
- 520
- 2016-02-09 17:32:18
لأن دور المفكرين هو التنوير، ولأن العالم العربي اليوم يعيش لحظة تنشط فيها قوى الظلام وأفكار الشر التي اتشحت بالدم، وتوشحت بأداة القتل والتدمير، كان ولا بد من وقفة مع تلك النخب المؤثرة التي يُناط بها إجلاء العتمة والبحث عن بصيص أو قبس من نور يبددها قبل أن ترخي بسوادها على عالمنا الإسلامي الذي يعرف...