الثلاثاء, حزيران/يونيو 17, 2025

All the News That's Fit to Print

المحافظون الجدد وبخاصة جناح ليو شتراوس متهمون بترويج "الكذب النبيل" أثناء حشدهم لاجتياح العراق عام 2003م، ويقصدون -حسب فرانسيس فوكوياما التائب من المحافظة الجديدة- أن "من الواجب عملياً أن يتم الكذب على الجماهير، وذلك لأن نخبة قليلة فقط هي المؤهلة فكرياً لتعرف الحقيقة". لم تجد أميريكا أسلحة دمار شامل، ولم يستقبلهم العراقيون في الشوارع بالورود، كما أن فلسفة المحافظين الجدد التي تقوم على تغيير الأنظمة لتحسين حياة الشعوب لم تنجح في تسليم العراق لحكومة ديمقراطية ذات غالبية شيعية. تلك الفرضيات الوردية حوّلت العراق إلى شيع وأحزاب، ووفرت بيئة حاضنة للإرهاب الذي امتلك لأول مرة أرضاً تحكمها جماعة إرهابية (داعش)، وتعلن نفسها دولة. فشلُ المحافظين الجدد الذين حشدوا للحرب ودفعوا بالأميركيين إليها جعلهم عرضة لهجوم لاذع من الأميركيين، مما دفع ببعضهم من أمثال فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب (أميركا على مفترق طرق.. ما بعد المحافظين الجدد) للتراجع عن إيمانه بهذه الحركة.

لن أفيض في مراجعة أدبيات المحافظين الجد، وإنما سوف أفرد ما بقي من مساحة لنتائج سيطرتها على القرار في البيت الأبيض والدفاع والخارجية وما خلفه ذلك على العالم من دمار وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط. ولعل أول ردود الفعل الأميركية الغارقة في الغضب تمثلت في وصول أول رئيس أميركي أسود إلى البيت الأبيض، فقد توجه الناخبون إلى صناديق الانتخابات يوم الثلاثاء 4 نوفمبر 2008م وذواكرهم مثقلة بالحروب التي قادهم إليها المحافظون الجدد فمالوا كل الميل باتجاه المعسكر الديمقراطي بقوة، وكانت النتيجة وصول الرئيس باراك أوباما للحكم حيث قدّم وعوداً تناقض طروحات المحافظين الجدد على نحو مطلق.

الاختيار الذي رآه الأميركيون يومئذ مناسباً، طوت سنواته الأربع الأولى حالة الشغف به، فقد انتقم الأميركيون من المحافظين الجدد وحطموا نصبهم، ثم أفاقوا مع مطلع الفترة الثانية والأخيرة لحكم الرئيس باراك حسين أوباما على حقيقة أنه يحكمهم رئيس من أصول أفريقية، له نسب وشيج بالإسلام، ويسبح في بحر لجي من الطروحات التآمرية بدوافع عنصرية أو أيديولوجية أو سياسية، مما بث الرعب في وجدان الأميركيين وبخاصة عامة الناس ودهماءهم الذين يجوز في حقهم الكذب النبيل. هذا الخوف الذي سكنهم استثمره بقايا اليمين المحافظ، وحاول تنظيم صفوفه وتجديد خطابه، ووجد في دونالد ترامب مرشحاً لا يخجل مما يقول ولا يندم عليه فكان بمثابة المنقذ الذي يعيد لأميركا مكانتها، وهيبتها، ويتعلق به الوجلون من عامة الأميركيين. ويبدو لي الحال وكأنه رغبة عارمة من عامة الناس وخاصتهم في تطهير البيت الأبيض من أشباح السنوات الثماني التي يرونها تهديداً حقيقياً لأمن الولايات المتحدة الأميركية وهويتها المسيحية.

دونالد ترامب الذي ينطبق عليه حديث "الرويبضة" والذي لا يفقه شيئاً في الشأن العام يكسب جماهيرية جميع المستويات. ومن الغريب أن إساءاته للمرأة وللهسبانك (المهاجرين من أصول لاتينية) لم تؤثر سلباً على شعبيته بل منهم من صوّت له في الانتخابات الأولية وبخاصة في ولاية نيفادا التي حصد فيها 42% من المجالس الانتخابية. ترامب اقتنص افتتان الإعلام الأميركي بالترفيه؛ فالتلفزيون في أميركا يصنع من الحدث -مهما كان مأساوياً- مشاهد مدهشة تجذب المتلقي وتجعله يتوحد مع الشاشة بفعل طريقة التقديم السريعة والألوان، والجرافكس، و"الأكشنات" المتتالية التي تجذبك إلى الاستمتاع بالمشهد مهما كانت تراجيديته. في البدء كان ترامب سخرية المراقبين والمراسلين، وكان تسلية العامة، ولكن في فصل آخر من القصة كان يكسب شعبية متصاعدة كماً وكيفاً. عندما أفاق الساخرون من سكرتهم، كانت الطيور قد طارت بأرزاقها، وحصد الرجل ثلاث ولايات متتالية هي نيوهامبشير، وكارولينا الجنوبية ونيفادا. واليوم الثلاثاء الأول من مارس 2016م سيكون يوماً فاصلاً في مسيرة الانتخابات الأولية حيث ستصوت ولايات ألاباما، ألاسكا، أركانسا، جورجيا، ماساتشوستس، مينسوتا، أوكلاهوما، تكساس، تنيسي، فرجينيا، فيرمونت، والجمهوريون في الخارج، وهو أكبر عدد من الولايات تصوت في يوم واحد خلال الانتخابات الأولية.

المرشح الجمهوري دونالد ترامب يخاطب الناخبين والرأي العام الأميركي بما يجيش في نفوسهم، فيشعرون أنه يعبر عن حاجات دفينة يصعب عليهم البوح بها إما لغياب الوسيلة أو خجلاً من شذوذ تلك الأماني أو الأفكار. هذا الرجل لا يوجد في قاموسه كلمة خجل، أو مفردة عيب، فهو يتحدث بتلقائية حول الكليات دون الدخول في تفاصيل مشروعه السياسي والاقتصادي. وهو لا يتورع في أن يدلي بحديث لا يفرق فيه بين القدس والكرد، ولكن هذا لا يعنيه، ولم يعد معياراً في هذه المرحلة لقياس تمكن المرشح من قضايا الأمن والسياسة والعلاقات الدولية. فقد طغى على المشهد ما يمكن أن نسميه "هياط" المجتمعات الصناعية. وبذلك فإن السؤال هو: وماذا بعد؟

يراهن بعض المفكرين والقياديين في الحزب الجمهوري على إسقاطه لصالح مرشح شاب مثل روبيو أو كروز. ولكنهم مندهشون من اتساع الفارق بينه وبين من يليه، فقد حصد حتى الآن 82 صوتاً جمهورياً، يليه كروز 17 ثم روبيو 16 صوتاً. كما أن حالة الاندهاش تتزايد عندما يعبر عن ثقته في شعبيته إلى درجة إعلانه أنه لو قتل رجلاً في قلب نيويورك فلن ينقص مؤيدوه صوتاً واحداً. وهذا لعمري يدعو لقلق داخل أميركا وخارجها. فإذا كان من المسلم به أن رئيس الولايات المتحدة يحكم ضمن إطار مؤسساتي فإنه من المنطق القول بأن تحت يده صلاحيات ضخمة، وسوف يستند حينئذ لشرعية الدهماء فيما لو اختلف مع المؤسسات كالكونغرس مثلاً.

مازال أمامنا ولايات أميركية كثيرة لم يأت دورها في التصويت الأولي، ولكن الرهان على أن ترامب لو كسب ترشيح الجمهوريين فإنه سيهزم أمام المرشح الديمقراطي الذي سيكون في الغالب هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية هو رهان خاسر في ظني. في حالة فوز ترامب -لا سمح الله- في الانتخابات الرئاسية فإن العالم سيكون أمام مفترق طرق، وستكون الديمقراطية حينها قد جنت على أميركا والعالم.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


لمراسلة الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


آراء الكتاب

  • الدول العربية والديمقراطية والفساد - محمد آل الشيخ

    محمد آل الشيخ أصدرت (منظمة الشفافية العالمية) تقريرها عن معدلات الفساد في كل دول العالم للعام الماضي 2015. الأوربيون كانوا في المقدمة، وفي مقدمتهم (النرويج) وليس في ذلك مفاجأة طبعا، بل سيكون مفاجئا لي لوحصل العكس؛ فأنا أرى أمم الغرب، وبالذات الأوربيون أنزه الأمم وأكثرها شفافية وأمانة وعدالة اجتماعية...

  • حراسة الرمز - سعد الدوسري

    سعد الدوسري الحرص على سلامة المسجد، ليست مقتصرةً على النظافة، بل على كل الجوانب التي من شأنها تعكير صفو الرسالة الأساسية لبيت الله. الكثيرون منا لا يسهمون مطلقاً في خدمة المسجد، وفي نفس الوقت، يريدونه مكاناً مثالياً يحقق رغباتهم وتطلعاتهم. بعضنا يستغله لنشر فكره، حتى وإن كان مخالفاً لأمن واستقرار وطنه، دون أن يجد من...

  • الجانب الأرقى في الحضور العام - د.ثريا العريض

    د.ثريا العريض أكتب من دبي حيث أشارك في الملتقى السنوي «قلب شاعري» مع شعراء من العالم شرقا وغربا. وأتابع عن بعد أحداث مهرجان الجنادرية المميز الذي عايشت تأسيسه منذ ثلاثة عقود.. كما أتابع عن قرب جهود الهيئة العليا للسياحة والتراث عندنا في محاولة بناء صناعة سياحية وبيئة جاذبة و ثقافة عامة تستوعب أهمية التاريخ...

  • بطالة حملة ماجستير ودكتوراه! - يوسف المحيميد

    يوسف المحيميد في يونيو من العام الماضي كتبت عن التقرير الرسمي لوزارة الخدمة المدنية، بأن أكثر من سبعمائة ألف مواطن يرغبون في العمل الحكومي، ومن بينهم 149 من حملة الدكتوراه، وأتذكر أنني تلقيت اتصالا من نائب وزير سابق، حاول أن يفند المعلومة وعدم صحتها رغم أنها صادرة في تقرير رسمي، ومن وزارة مختصة بالتوظيف! كم أشعر...

  • دبي.. قمة الحكومات العالمية..! - ناصر الصِرامي

    ناصر الصِرامي غداً تختتم القمة الحكومية في نسختها العالمية بدبي، والتي أصبحت التجمع الأكبر عالمياً والمتخصص في استشراف حكومات المستقبل بمشاركة أكثر من 125 دولة حول العالم و3000 مشارك و125 متحدثاً وأكثر من 70 جلسة، طبقاً لمنظميها. القمة حدث حقيقي ومؤثر، ارتقت بعد 4 سنوات على خريطة المحافل العالمية، بزخم إعلامي وحكومي...

  • التنوير رافد السياسة - أيمـن الـحـمـاد

    لأن دور المفكرين هو التنوير، ولأن العالم العربي اليوم يعيش لحظة تنشط فيها قوى الظلام وأفكار الشر التي اتشحت بالدم، وتوشحت بأداة القتل والتدمير، كان ولا بد من وقفة مع تلك النخب المؤثرة التي يُناط بها إجلاء العتمة والبحث عن بصيص أو قبس من نور يبددها قبل أن ترخي بسوادها على عالمنا الإسلامي الذي يعرف...