الإغلاق الحكومي الأمريكي! - د. محمد بن يحيى الفال

د. محمد بن يحيى الفال

قد يكون مصطلح الإغلاق الحكومي «Government Shut down»، مصطلح غير شائع أو مألوف لدى غالبية الناس في عالمنا، بيد أنه أضحي أمراً لا مناص منه في الحياة السياسية الأمريكية ومنذ الثمانينات من القرن المنصرم وخصوصاً عندما يشتد الاحتقان السياسي بين الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة الأمريكية، الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري. يحدث الإغلاق الحكومي عندما تتعذر المصادقة على الميزانية الفيدرالية وقد يكون مرد ذلك لرفضها إما من قبل الرئيس أو لعدم حصولها على موافقة الكونجرس.

يحتاج تمرير الميزانية الفيدرالية الأمريكية إلى موافقة ثلثي الكونجرس الأمريكي بغرفتيه مجلس النواب المكون من 435 نائباً يمثلون المجمعات الانتخابية الأمريكية والتي يتم تحديدها عدد النواب الممثلين لها طبقاً لكثافتها السكانية ومجلس الشيوخ المكون من 100 عضو بتمثيل عضوين عن كل ولاية بغض النظر عن حجمها أو عدد سكانها، فعليه وكمثال فهناك عدد اثنين من الشيوخ يمثلون ولاية وايومنغ ذات التعداد السكاني الأقل على مستوى أمريكا وكذلك عدد اثنين من الشيوخ يمثلون كاليفورنيا الولاية الأمريكية التي تعد الأكثر كثافة في تعداد السكان. غالباً ما يحدث الإغلاق الحكومي عندما تكون الغالبية في غرفتي الكونجرس النواب والشيوخ يتمتع بها أحد الحزبين والذي يضع تصوره فيما يخص معايير صرف الميزانية الفيدرالية واستحقاقات كل جهة تتلقى دعماً فيدرالياً والإغلاق الحكومي الحالي الذي بدأ في الأول من شهر أكتوبر الجاري سببه رفض الديموقراطيين المصادقة على الميزانية الفيدرالية بكونها تتضمن تقليصا كبيرا في الدعم الفيدرالي لبرنامج الرعاية الصحية «Medicare»، وحجة الجمهوريين بأن نسبة محترمة من هذا الدعم الفيدرالي تذهب إلى تغطية مصاريف الرعاية الصحية للمهاجريين المقيمين بصفة غير شرعية، بينما ينفي المُشرعين الديموقراطيين هذا الادعاء وينفونه جملة وتفصيلاً وبأن تقليص ميزانية الرعاية الصحية سوف تضر بالأمريكيين الذين يعتمدون عليه بشكل أساسي والتي تشير آخر الاحصائيات التي أجريت في أواخر عام 2024 وأوائل 2025 بأن أعدداهم تبلغ 89 مليون مستفيد من برنامج الدعم الحكومي الفيدرالي للرعاية الصحية. الإغلاق الحكومي الحالي لم يكن الأول وقطعاً لن يكون الأخير إلا إذا توصل المُشرعون الأمريكيون في الحزبين الديموقراطي والجمهوري إلى صيغة جديدة تسمح باستمرار الصرف من بنود الميزانية الفيدرالية إلى حين الوصول إلى اتفاق يجمع عليه الحزبان لحين صدور الميزانية الفيدرالية في صيغتها النهائية. يعد الإغلاق الحالي هو الثاني خلال تولي الرئيس دونالد ترامب سدة الحكم، كان هناك إغلاق حكومي خلال فترة رئاسته الأولى بسبب رفض الكونجرس الموافقة على تمويل اقترحه الرئيس بقيمة خمسة مليارات وسبعمائة مليون دولار لبناء جدار يفصل بين الولايات المتحدة والمكسيك للحد من الهجرة غير الشرعية واستمر هذا الإغلاق الحكومي لمدة خمسة وثلاثين يوما ويعد الأطول في تاريخ الإغلاقات الحكومي. الإغلاقات الحكومية الأمريكية السابقة تتفاوت في مدة استمرارها فبعضها استمر لساعات فقط وبعضها لأيام. الرئيس الديموقراطي كارتر حدث إغلاق واحد خلال فترة رئاسته استمر أربعة أيام، الرئيس الجمهوري ريغان رصيده من الإغلاقات الحكومية ثلاث تتميز بقصر مدتها، اثنان منها استمرا لمدة أربع ساعات فقط والثالثة لمدة أربع أيام، حدث إغلاق حكومي واحد فقط خلال إدارة الرئيس الجمهوري جورج بوش الأب استمر ثلاثة أيام، أما الرئيسان الديمقراطيان بيل كلينتون وباراك أوباما نالهما نصيب من الإغلاق الحكومي، الرئيس كلينتون حدث خلال فترة رئاسته إغلاق حكومي أولهما لمدة ستة أيام والآخر استمر لمدة 21 يوما، الرئيس باراك أوباما خلال فترتي ولايته حدث إغلاق حكومي مرتين، استمر الأول 16 يوماً والثاني ثلاثة أيام.

لعل السؤال الأهم هنا فحواه تتمحور حول الأضرار التي تنجم عن الإغلاق الحكومي الحالي، فالجواب المختصر هو بأنه بغير اعتماد مالي فليس هناك صرف رواتب ولا ميزانية لتشغيل الهيئات والبرامج الممولة من الحكومة الفيدرالية. عموماً فأكثر الجهات الفيدرالية التي تغلق أبوابها بسبب الإغلاق الحكومي هي المنتزهات والمتاحف الوطنية، المكتبات الممولة فيدرالياً وعلى رأسها مكتبة الكونجرس التي تعد من أضخم وأرقي المكتبات العالمية ويعتمد عليها الكثير من السياسيين والباحثين، أما الأرصاد ومراقبو الملاحة الجوية مما يسبب في تأخير في مواعيد بعض الرحلات ولعل الملاحظ هنا بأن البريد الأمريكي وهو هيئة فيدرالية لا يتأثر بالإغلاق الحكومي بكونه ممولا ذاتياً مما يتحصل عليه من مداخيل مقابل الخدمات التي يقدمها. قائمة المتضررين من الإغلاق الحكومي تشمل الملايين من الأمريكيين المسجلين في برنامج الرعاية الصحية، بكون المخصصات لبرنامجهم هي السبب المباشر للإغلاق الحالي لرفض الديموقراطيين تخفيضها، ومع ذلك فهم لن يتضرروا بشكل مباشر خلال فترة الإغلاق لكونهم محصنين بقانون تم تمريره من الكونجرس يخص الرعاية الصحية ولكن الخدمات المقدمة لهم سوف تتأثر بشكل ملحوظ، كذلك فهناك أكثر من مليوني موظف فيدرالي لن يحصلوا على رواتبهم إلا بعد نهاية الإغلاق الحكومي مع حديث غير مؤكد بأنهم لن يحصلوا على الرواتب بأثر رجعي كما هو الحال في الإغلاقات الحكومية السابقة. كذلك تم إخطار 750 ألف موظف فيدرالي بأنهم في إجازة إلزامية حتى نهاية الإغلاق ومصادقة الرئيس والكونجرس على الميزانية الفيدرالية. قطعاً هذا الإغلاق سوف يكون له تأثير واضح خصوصاً على الذين سيتم الاستغناء عن خدماتهم. استعدت الكثير من الولايات لمواجهة الإغلاق الحكومي وأضراره على ساكنيها من الموظفين الفيدراليين، حيث دعا الديموقراطي ويس مور حاكم ولاية ميرلاند الملاصقة للعاصمة الفيدرالية واشنطن إلى اجتماع عاجل للهيئة التشريعية للولاية لوضع ترتيبات لجدولة المستحقات المالية من أقساط القروض العقارية والفواتير المستحقة على الموظفين الفيدراليين من سكان الولاية التي تم تسريح أكثر من 12 ألف موظف فيدرالي من أعمالهم عقب اطلاق وزارة تحسين الجودة الحكومية التي ترأسها في بداية أعمالها الملياردير أيلون ماسك.

الانتخابات النصفية السنة القادمة في شهر نوفمبر 2026 سوف تكون مفصلية فيما يخص رضى الشعب الأمريكي عن أداء الإدارة الحالية للفترة الرئاسية الثانية للرئيس دونالد ترامب، حيث سيتم إعادة كامل أعضاء مجلس النواب وعددهم 435 نائباً و35 عضواً من مجلس الشيوخ. غياب حزب ثالث فاعل في أمريكا يكون الكفة المرجحة في حالة عدم توافق الحزبين الرئيسين في أمريكا لعله أحد أهم الأسباب لم يحدث من إغلاقات تتسبب في إرباك حياة الكثير من الموظفين الفيدراليين والهيئات والبرامج الصحية والاجتماعية التي تعمل من خلال الميزانية التي تحصل عليها من الحكومة الفيدرالية. ومع قول ذلك فما يميز أمريكا هي القدرة دوماً على تجاوز أزماتها الداخلية وهو الأمر الذي سوف يتم حله عاجلاً أو آجلاً لعلاج متلازمة الإغلاق الحكومي.